• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

وللشعراء في روضاتهم أغراض قطوفها دانية

د. نضير الخزرجي

وللشعراء في روضاتهم أغراض قطوفها دانية

ينبهر المرء عندما يدخل مزرعة ممتدة على طول البصر، حيث يرى الأشجار والأزهار والنباتات وأنواع الفواكه والخضار، وفي نهاية الحصاد تنزع الأشجار لباس الثمار والتربة فراش الخضار لتأخذ طريقها إلى السوق وإلى المطابخ والأسمطة وأفواه الآكلين، وربّما لو عاد المرء بعد موسم حصاد سيجد التربة نفسها قد زرعت بنوع واحد فقط من الخضار، وفي السنة التالية بنوع آخر من جنس واحد أيضاً، وعندما تسأل المالك أو المزارع فيعطيك الغرض من زراعة جنس معين من الخضار بلحاظ سوق العرض والطلب.

فتنوّع الحصاد دلالة على تنوع الغرض، فالأرض هي الأرض نفسها ولكن لها أن تعطي الفواكه بأنواعها والخضار بأنواعه، فما تتقبله التربة من سماد يأتي منه الحصاد.

وساحة الأدب النثري والنظمي هو صورة قريبة وربّما مشابهة للأرض الزراعية المعطاء وما تنتجه من أنواع الخضار الغناء، وإذا اقتربنا إلى حدِّ المماثلة فإنّ الأدب النثري هو في واقعه أشبه بهذه التربة، فالشاعر هو الشاعر كما أنّ التربة هي التربة، لكن الشاعر له أنْ ينظم قصيدة رثاء أومدح أو هجاء، فسوق العرض يملي عليه نوع العطاء الشعري، وهو ما يعبّر عنه بالغرض الشعري وهو القصد وما انعقدت عليه النية لنظم القصيدة في المعني من ذات روح عاقلة وغير عاقلة أو زرع ونبات وجماد وحصاة، أو في ذوات الحسن والدلال أو الأحجار والإطلال، فمجموع الغرض يعرف في عالم النظم بالأغراض الشعرية، وهو الهدف والمراد، يُستبان من نوع المناسبة التي أنشأ فيها الشاعر وأنشد قصيدته أو من خلال طرق أبواب أبيات القصيدة والتعرُّف على مَن وما في الداخل، وبالطبع لا يظهر الغرض من أوّل بيت، بخاصّة في القصيدة القديمة التي اعتمدت الغزل مدخلاً لغرض شعري يريده الشاعر نتفهمه بعد أن يجتاز القارئ عتبة الغزل، وإلّا فإذا أراد القارئ أو الناقد أن يستبين غرض القصيدة من أبياتها الأُولى يفقد البوصلة فهي كلّها من الغزل وليس هي بذلك، وهذا الأمر يدركه القارئ العربي الحصيف والناقد الأدبي.

وللشعراء حالات وأجواء يأتي نظمهم للقصيدة من المؤثرات الخارجية وما توحيه المناسبة، ولهذا تتعدّد عندهم الأغراض الشعرية وإن كان الناظم واحداً كما هي التربة الخصبة واحدة، وهناك من الشعراء مَن يكثر من غرض واحد من الشعر نتيجة لظروف بيئية تحيط به ولسنوات طوال تجعل من شراع نظمه وشعره يتجه مع رياح الشاعر وخلجات نفسه الذاتية المتأثرة بالأجواء الموضوعية الخارجية، وهناك من الشعراء مَن أبدع شعرياً فيما نحى فيه من مدح أو هجاء أو غزل أو وصف، ومن الشعراء مَن جمع الأغراض كلّها أو بعضها، ولكن بالعموم فإنّ كلّ شاعر ينظّم خلال حياته أنواع الأغراض الشعرية وإن اختص بغرض معين ربّما لا يدرك الشاعر ذلك وإنّما نتبيّنه من خلال جمع شتات قصائده في ديوان، في حياته أو بعدها، فتبدو لنا لوحة أغراضه الشعرية فنعرف أين زاد من لون هذا الغرض وأين قل.

الأغراض الشعرية وما يتعلق بها يناقشها الأديب المحقق الشيخ محمّد صادق الكرباسي في كتابه الحديث الصادر هذا  العام (2019م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 151 صفحة من القطع الوزيري، مستشهداً لكلّ غرض بقصيدة من نظمه، قدّم للكتاب وعلّقه عليه الأديب العراقي الشاعر حسين محمّد البزاز، مع مقدّمة الناشر بقلم الأديب اللبناني الشاعر عبدالحسن الدهيني.

تاج الأغراض

عندما يرى الناظر لبستان أو حديقة واسعة في بيئة حارة كالبيئة العربية يجد نخيلاً باسقةً وتحت أفياء سعفات النخيل تصطف الأشجار بثمارها المتنوّعة وعند أقدام النخيل يمتد الخضار بأنواعه، فالكلّ يتفيأ ظلال النخيل وإن كان لكلّ شجر ونجم شكله ونوعه، وهذا الوصف قد ينطبق إلى حدٍّ ما مع الأغراض الشعرية، فالقدماء يعقلونها تحت ظلال الوصف، وبتعبير أبي علي الحسن بن رشيق القيرواني (390- 456هـ): «الشعر إلّا أقلّه راجع إلى باب الوصف فلا سبيل إلى حصره واستقصائه».

ولا يخفى ما في كلام ابن رشيق من صحّة، ويعقب الأديب الكرباسي قائلاً: «وفي الحقيقة أنّه يمكن القول بأنّ أغراض الوصف تتنوّع على الأقسام التي ذكروها فمثلاً المدح هو وصف الممدوح بما يليق أو لا يليق، والرثاء هو مدح الميت والرثاء إن وقع من النِّساء النائحات قيل له نواحاً، والغزل وصف جمال المعشوق بقسميه التشبيب والنسيب، وكذا الهجاء فإنّه نوع آخر من الوصف السلبي، والحماسة فإنّه وصف للمعارك، والفخر وصف للذات والمحتد وما إلى ذلك»، وإذا لفقنا بين قول ابن رشيق وفهم الكرباسي للغرض الشعري يصبح «الوصف» هو حجر الرحى والمحور الأساس للشعر، ولكن الكرباسي يعود ليفيدنا بالقول: «ومع هذا فقد يطلق الوصف كغرض من الأغراض فيما إذا كان إخباراً عن حقيقة كالطبيعة والأطلال والحيوان والنبات، وأمّا إذا لم يكن كذلك بل كان مجازاً أو تمثيلاً فيُسمّى بالتشبيه، وإن وقع بين الأصدقاء والإخوان سُمّي بالإخوانيات، أو حمل شكوى الحبيب والصديق قيل له عتاباً، والرد عليه اعتذاراً، وربّما حمل السياسة أو الفلسفة أو الزُّهد أو النُّصح أو غيرها وعندها وصف بإحداها، وإن كان وصفاً لحرب كان حماسة، وإن كان وصفاً للأهل والعشيرة والذات سُمّي فخراً، وإن كان وصفاً للخمر سُمّي بالخمريات، وإن كان وصفاً للصيد سُمّي بالطرديات، وإن كان وصفاً للمرأة كان غزلاً، فلو تناول الشكوى من فراقها والتشوق إلى لقائها سُمّي نسيباً، وإن كان وصفاً لجسمها فتركوا اسم الغزل عليها، وربّما زادوا عليها التشبيب أيضاً، وإن كان وصفاً لحقيقة حال موافقاً لقانون الكون فحكمة، فالأغراض الشعرية لا تنحصر بما ذكروه ولا تخرج عن كونها وصفاً».

وفي تقديمه على الكتاب وتعليقه يشبّه الشاعر حسين البزاز الوصف بالخليج، وهو وصف جميل، حيث يقول: «وبما إنّ الوصف هو الخليج الذي تصبُّ فيه كلّ الروافد الوافدة من الأعلى، فهو المحطة التي تستقبل كلّ أنواع الأغراض الشعرية... فالأغراض الشعرية الأصلية والرئيسية المألوفة لدى الشعراء في المجتمع العربي هي ذاتها التي نستعملها اليوم في الكتابة الشعرية زائداً ما استُحدثت من أغراض حديثة متنوّعة والتركيز عليها بفعل الواقع المعاش».

وبالطبع خضع النُّظم كغيره إلى التطوّر والتنوّع في أغراضه حسب تطوّر المدنية والحضارة، فالبيئة الصحراوية لها تطوّراتها وكذا البيئة الجبلية، واقتراب حدود القرية من المدينة وامتداداتها لها أثرها على الشعر، وتداخل الشعوب والأُمم له أثره الفاعل، وتطوّر وسائل الإعلام والاتصال له أثره العميق في خلق خلفية أدبية للشاعر، فلم يعد الشاعر حليس البيئة التي يعيش فيها ولذلك توسّعت عنده الآفاق وتنوّعت الأغراض الشعرية، ومن هنا يقرر الكرباسي: «إنّ تحديد الشعر في أغراض قد لا يكون صحيحاً إذ الشعر لا يقبل التحديد بهذا المعنى فالغرض عند الشاعر يتجدّد، والحاجة عند الإنسان تتغير، والإبداع الأدبي يتطوّر»، وهي حقيقة ملموسة عند المقارنة بين الشعر في العصر الجاهلي على ما عليه في العصر الإسلامي إلى يومنا هذا، وهو ما نراه كما يضيف الشاعر البزاز: «في الشعر الوعظي والديني والتعليمي والأخلاقي والتصوفي والإشادي».

إذن للشعر أغراض كما يقول الشاعر الكرباسي، من بحر مجزوء الرجيز:

للشعر عند الناظمين أعراضُ *** ساروا بأهداف لهم وأغراضُ

وهي أغراض عبَّر عنها المقدّم بـ: «بيت القصيد» حيث: «ينطوي عليه الغرض المنشود في القصيدة».

آداب وأهداف

ولا يتعلق الغرض بالأدب النظمي، فهو شامل للأدب النثري أيضاً، ولكنّه أظهر في الشعر الذي يعتمد الوصف ممّا يُستبان منه معالم المراد والقصد والهدف، وبشكل عامّ فإنّ للأدب مقاصد عدّة وتحت مظلة هذه المقاصد تتنوّع الأغراض الشعرية.

الأديب الكرباسي أحصى مجموعة من الآداب وتحت سقفها مجموعة من الأغراض، فكانت الآداب (5) على النحو التالي: أدب الثورة، أدب المرأة، أدب المناسبات، أدب الملحمة، وأدب التاريخ، وأمّا الأغراض المتداولة فكانت (22) على النحو التالي: الغزل، الرثاء، الهجاء، المدح، الزُّهد، الحكمة، الشكوى، الفخر، الأخلاق، الحنين، الوفاء، العتاب، الاعتذار، النهضة، التشبيب، الرجاء، الخيال، الوصف، الخمر، الخيانة، الطرد، والفكاهة.

في الواقع ليس للأغراض الشعرية من محدّدات وعناوين ثابتة، فهي قابلة للزيادة مع مرور الزمن، وكلّما تقلصت المسافات المكانية بفعل التقنية الحديثة تقاربت الثقافات وتعدّدت حلقات سلسلة الأغراض الشعرية، كما إنّ تنوّع العلوم التي يقف عليها الأديب الشاعر تعطيه مساحة أوسع في تنوّع الأغراض والمقاصد، وهذا ما كان عليه العلماء في العصور الغابرة وإلى وقت قريب إلّا ما قلّ منهم وندر في وقتنا الحاضر، فمعظم شعراء الماضي هم علماء وفقهاء وفلاسفة ومحدثون ومفسرون وأطباء وفلكيون ومؤرخون وعلماء تجريبيون، وو، وبعضهم يجمع هذه العلوم وغيرها كلّها أو بعضها إلى جانب النُّظم، ومن الطبيعي مَن كان هذا شأنه تنوّعت عنده الأغراض الشعرية وتشعبت.

وهو ما عليه المؤلف، وهو من الندرة، حيث جمع مع النُّظم الفقه والفلسفة والتفسير والتحقيق والتاريخ والأوزان والعروض وغيرها من العلوم النقلية والعقلية، فجاء الشعر عنده متنوّع الأغراض، وقد أثبت في هذا الكتاب (27) نوعاً من الشعر على النحو التالي: شعر الابتهال، الاجتماعيات، الإخوانيات، الاستنهاض، التأريخ، الجناس، الحكمة، الحماسة، الديباجة، الرثاء، السياسة، السيرة، الشكوى، العتاب، العرفان، العلمي، الغربة، الغزل، الفخر، الفلسفة، المدح، المناجاة، الهجاء، الوجدانيات، الوصف، الوطنية، وشعر الولاء.

ومثل لكلّ نوع شعر بقصيدة وزاد في شعر التأريخ وشعر الجناس بقصيدتين لكلّ منهما فكانت (29) قصيدة، جاءت عناوينها على النحو التالي: ابتهال اليائس، عودة إلى الجاهلية، أتيت شاكراً، إمام العصر، يا صنو الوفا وولف الصفا، شمس الضحى، ختام الجناس، الجناس المكتنف، لربّي حكمة، صوت الهدى يعتلي، استهلال، تجديد الذكرى، ما أشبه اليوم بالبارحة، ذكرياتي، ليلي نهار، بني بلدتي، عرفان العشق، سورة النبأ، الغربة، أوصدت باب داري، من فاطم أصلي، التوفيق، مهوى مالك، مناجاة التائبين، شمر الغدر، الهروب إلى الموت، العظمة، احتلال الموصل، وعليّ المرتضى عليّ.

نماذج دفّاقة

ومع أنّ التنوّع في الأغراض الشعرية تكسب أبيات الشاعر مناعة وقافيته متانة، لكن التخصص في غرض أو مجموعة أغراض محدودة في واقعه مدعاة لإبداع الشاعر، لأنّ الذي يتحرّك في دائرة ضيِّقة تتفجر عنده عيون القوافي وتتبدى طاقته الإبداعية وهو يظهر مكنون ما عنده من مهارة ليكون متميزاً ليقف على عرش النُّظم، ويرى الأديب الكرباسي أنّ التخصص في الغرض هو مستقبل الشعر، بل يدعو إليه بقوله: «ولتقريب المعنى فإنّ الناظم باللهجتين الدارجة والفصحى عليه أن يختار أحدهما ليكون عطاؤه ونتاجه هو الأقوى في مجاله، والناظم بالفصحى مثلاً عليه أن ينظّم حسب مواهبه ويختار إحدى الأغراض الشعرية فيتخصص بالسياسة وآخر بالغزل وهكذا، وهذا لا يعني أن تكون دراساته قاصرة على جهة معينة بل لابدّ له أن يكون مُلماً بكلّ النواحي إلّا إنّ عليه أيضاً أن يتخصص ليكون الأفضل وينتج الأفضل ويستهدف الأفضل».

وبعد شرح مستفيض لأغراض الشعر قديمها وحديثها ومستحدثها وما يمكن أن يستحدث في المستقبل يقدّم لنا الشاعر الكرباسي من نُظمه نماذج من الشعر وأغراضه ومقاصده، فعلى سبيل من «شعر الإخوانيات» من مقطوعة من أربع أبيات من بحر الكامل، يقول في أوّلها:

إنّني أتيت اليوم شاكراً لما *** قد سبقتني فكنتُ الشفيق والحما

قالها في 19/6/2000م كرد على مقطوعة شعرية تفضل بها الفقيه والشاعر العراقي الشيخ محمّد جواد السهلاني (1911- 2008م) عند زيارته لندن، جاء في أوّلها:

شكراً إليك أبا علاءٍ إنّني *** مازلت أشكركم مدى الأيّام

وأبو علاء هي كنية الشيخ الكرباسي نسبة إلى نجله الأكبر.

ومن «شعر الاستنهاض» أنشأه في ذكرى ميلاد المهدي المنتظر (عج) في 15/8/1435هـ من بحر الرمل التام:

يا إمام العصر قُم فينا وعجِّلْ *** نحنُ جندٌ طوْعَ أمرٍ منكَ عجِّلْ

ومن «شعر الجناس» قصيدة من بحر الرجز المسدس كلّ بيت فيها مرصع بألماس الجناس الجميل، قال فيها:

جَنِّسْ جَنِيساً بِالجِنَاسِ الأَجْنَسِ *** مَجْنُوسُكُمْ جِنْسُ الجِنَاسِ المُجْنَسِ

ويختم القصيدة بالبيت الخمسين قائلاً:

أَوْحَى بوَحْيِ الوَحْيِ وَحْياً بالوَحَى *** فَالوَحْيُ وَحْيِي حَيِّنِي حَيَّ الوَحَى

ومن «شعر الولاء» قوله من مجزوء المشترك:

عليٌّ في العُلا عليُّ *** عطاءٌ جاده العليُّ

لا يخفى أنّ الأديب والمحقق الكرباسي يقدّم في «الأغراض الشرعية» كشكولاً جميلاً من الأغراض الشعرية ونماذجها وبتعبير المقدّم الشاعر حسين البزاز: وفي الختام نود الإشادة بما قام به الشاعر من ذِكر نماذج من شعره الدفّاق في مختلف الاتجاهات، ممّا يمكن أن يكون مثالاً واقعياً لمن ينظّم الشعر في جميع الاتجاهات والأغراض دون التخصص بغرض معيّن كما عُرف عن بعض الشعراء.

ارسال التعليق

Top